ميديا

استغلال الطفولة على منصات التواصل… قضية أخلاقية وقانونية

 

جعفر بدران

لم يعد غريباً أن نصادف يومياً عشرات الفيديوهات القصيرة على منصات مثل “إنستغرام” و”فيسبوك”، يظهر فيها أطفال لم يتجاوزوا الخامسة عشرة من أعمارهم، بل أحياناً دون العاشرة. هؤلاء الصغار يطلّون أمام ملايين المتابعين، بعضهم برغبتهم، لكن في الغالب بدفع وتشجيع من الأهل، والنتيجة: آلاف الإعجابات والمشاهدات، وكأن الأمر طبيعي ومقبول.

بين القوانين والواقع

تضع المنصات العالمية نفسها قيوداً واضحة: الحد الأدنى لإنشاء حساب هو 13 عاماً، وهذا يعني السماح بالوجود الرقمي فقط، لا إنتاج المحتوى أو الظهور الإعلامي بهذا الشكل. ورغم ذلك، كثير من الأهل يتجاوزون هذه القوانين بدم بارد، فيسجلون حسابات لأطفالهم، أو يعرضون صورهم ومقاطعهم طمعاً في شهرة مؤقتة أو أرباح محدودة.

ما يحدث هنا ليس “براءة طفولة” كما يحاول البعض تبريره، بل هو استغلال صريح لبراءة الأطفال. فالطفل ليس مشروع ربح، ولا وسيلة تسويق. كل صورة أو فيديو يُنشر اليوم قد يعود بعد سنوات ليؤثر على سمعته ومستقبله، وربما يتحول إلى وصمة أو أداة تنمّر بيده أو بيد الآخرين.

الخطر النفسي والاجتماعي

يتجاوز الأمر مجرد كشف هوية الطفل على الإنترنت. حين يكبر الطفل ويدرك أن أهله استغلوه وساهموا في تعريضه لمخاطر، قد يشعر بالخذلان وفقدان الثقة بمن كان من المفترض أن يكونوا خط الدفاع الأول عنه.
إضافة إلى ذلك، فإن انتشار هذه النماذج يجعل الأطفال الآخرين يسعون لتقليدها بدافع التحدي أو الرغبة في لفت الانتباه، ما يضع الأهل أمام ضغوط مضاعفة ويزيد من احتمالية الانفلات الرقمي.

أين دور القانون؟

في دول مثل ألمانيا، القاعدة واضحة: إذا فشل الأهل في حماية أبنائهم من الاستغلال أو المخاطر، تتدخل الدولة سريعاً، وقد تسحب الطفل من بيئة غير آمنة وتضعه في رعاية بديلة. الأولوية هناك ليست لإرضاء الأهل أو تفهّم أعذارهم، بل لحماية حياة الطفل ومستقبله.

أما في مجتمعاتنا العربية، فما زلنا نفتقد إلى تشريعات صارمة ورقابة حقيقية في هذا المجال. ترك الباب مفتوحاً أمام الأهل لاستغلال أبنائهم مقابل مشاهدات أو دخل مالي محدود، يعني أننا نخاطر بخسارة جيل كامل ينشأ على أن طفولته ليست ملكاً له، بل مشروعاً تجارياً.

الطفولة خط أحمر

حماية الطفل ليست خياراً ولا مسألة تقدير شخصي، بل واجب إنساني وقانوني. من يفرّط في هذه المسؤولية يجب أن يُحاسب بلا شفقة ولا تأجيل. الطفل ليس أداة للتسلية ولا بطاقة لزيادة المتابعين.

إن لم نضع قوانين صارمة تنظم ظهور الأطفال على منصات التواصل ونضمن تنفيذها، فإننا نفتح الباب أمام جيل مكشوف منذ طفولته، فاقد للخصوصية، وربما مثقل بجراح نفسية لا تعوَّض.

المطلوب اليوم هو وعي مجتمعي يسبق القانون:

رفض الإعجاب أو التفاعل مع المحتوى الذي يستغل الأطفال.

نشر ثقافة “الطفولة خط أحمر” بين الأهل والمربين.

الضغط من أجل تشريعات تجرّم استغلال الأطفال عبر المنصات الرقمية.

فمن لا يحمي طفله لا يملك أن يدّعي التربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

فضلا تعطيل إضافة حاجب الإعلانات لتصفح الموقع